الرئيسية - أقاليم - هل يعود اليمن موطناً لصناعة الذهب الأسود ؟
هل يعود اليمن موطناً لصناعة الذهب الأسود ؟
الساعة 09:44 م (راي اليمن_ كنعان الحميري /اندبندنت عربية )

كان البن اليمني بمثابة العملة المحلية الوحيدة العابرة الحدود والقارات، التي عرفت العالم به، وعرف العالم من خلاله اليمن.

وصدّر اليمن القهوة في القرن الخامس عشر، وعرف بـ"موكا"، وهي تحريف لهجي لـ"قهوة المخاء" نسبة إلى ميناء المخاء الواقع بمحافظة الحديدة المطلة على البحر الأحمر، الذي يعد أول ميناء انطلقت منه سفن تجارة وتصدير البن إلى أوروبا، وباقي أنحاء العالم.

شهرة
ويشتهر البن اليمني بمذاقه الفريد وغناه بمكوناته التي منحته شهرة واسعة ميّزته عن باقي أنواع البن التي تزرع وتنتج في بلدان العالم الأخرى.

وكان للمناخ المعتدل على مدار العام، وتنوّع تضاريس اليمن الدور البارز في جودة إنتاج البن، فضلاً عن المهارة التي أبداها المزارع اليمني في هذا المجال أباً عن جد.

منشأ ثاني أهم سلعة في العالم
وعلى الرغم من أن منشأ نبتة البُن هو إثيوبيا، فإن اليمنيين ابتكروا استخدام حبيباته المتكورة بحجم حبة العنب، بعد تحميصها وطحنها، وغليها في الماء لتمنحنا هذا المشروب اللذيذ المنبه، نظراً إلى احتوائها على مادة الكافيين، بعد أن شقت طريق انتشارها سريعاً في المنطقة والعالم بفعل تنقّل التجار والحجاج اليمنيين حتى بات لا يخلو منه أي بيت بالعالم، ومن ثمّ ظهور المقاهي أو القهاوي حسب التسمية العربية لتصبح ثاني أكثر السلع تداولاً في العالم بعد النفط الخام.

مزاج القهوة منذ القدم
ويعود أول ذكر لمحصول القهوة باسم (البُن اليمني) إلى الطبيب العربي ابن الرازي في عام 900، إذ يشير بعض المخطوطات إلى أن علياً بن عمر الشاذلي المتوفي في المخا عام 1418 هو أول من نقل بذور القهوة من جنوب غرب الحبشة إلى اليمن، وأول من احتساها كمشروب.

وذكر الحنبلي في كتابه "عمدة الصفوة في حل القهوة"، أن جمال الدين الذبحاني المتوفي سنة 1470 هو أول من زرع القهوة في اليمن، بعد خروجه من عدن إلى بر العجم (أفريقيا أو إثيوبيا حالياً)، فوجد أهله ينقعون ثمر البُن فيشربونه، فشرب منه، فوجده يهدئ الآلام، ويقاوم النعاس، ويمنح الجسم خفة وحضوراً ذهنياً.

الحرب... والذهب الأسود
وتقدر صناعة القهوة بنحو 80 مليار دولار، ما يجعلها أعلى السلع التجارية قيمةً في العالم بعد النفط، غير أن الحرب ألقت بظلالها هي الأخرى على عملية إنتاجه في بلده الأُم، فضلاً عن التراجع في زراعته جراء العوامل الاقتصادية الأخرى.

وتراجعت زراعته في اليمن منذ العام 2009 من 17 ألفاً و300 طن إلى 15 ألفاً و200 طن، في حين انحسرت مساحاته المزروعة من 33 ألفاً و500 هكتار إلى 27 ألف هكتار، حسب بيانات صادرة عن وزارة الزراعة والري في الحكومة اليمنية وجمعية البُن اليمني.

اختلاف النكهات والشكل
تختلف نكهات البن اليمني، باختلاف المناطق التي اشتهرت بزراعته، ويعد البن "الإسماعيلي" هو الأجود يليه "المطري" و"الحيمي" و"اليافعي" و"الخولاني" و"الحمادي"، وهي مناطق يمنية في شمال ووسط وجنوب البلاد.

ويصنّف المزارعون البن في اليمن تبعاً لشكله، فمنه "التفاحي" الذي يعد أجوده،  و"البرعي" و"الدوائري" و"العديني"، وغيرها.

"موكا كافيه"... علامة يمنية
في كتابها، "تجارة البُن اليمني" تشير الباحثة اليمنية، أروى الخطابي، إلى أن "العثمانيين عندما تمكنوا من طرد البرتغاليين من سواحل البحر الأحمر بشكل كامل في عام 1538، بدؤوا عهداً جديداً من التجارة، عبر موانئ البحر الأحمر، وبالتحديد انطلاقاً من ميناء المخا، وهو الاسم الذي تحوَّل إلى ماركة عالمية (MOCKA COFFEE)، وقد ظهر هذا الاسم للمرة الأولى في اللغة الإنجليزية في عام 1598، وهو يعني بُن المخا".

وتضيف، "في بداية القرن السابع عشر الميلادي، بدأت أنظار التجَّار الغربيين وحكومات بلدانهم بالتنبه إلى القيمة الاقتصادية الكبيرة التي ينطوي عليها هذا المحصول اليمني، وفي عام 1609، زار المخا الرحالة الأوروبي جورداين، وتوقَّع رواجاً تجارياً أكبر لمحصول البُن اليمني، بينما نبّه التاجر الهولندي بيتر فان دن بروكه الهولنديين إلى الأهمية التجارية للبُن اليمني في عام 1616".

العودة
في منطقة حراز الواقعة غرب صنعاء، حيث القرى المعلقة في سلاسل الجبال الشاهقة تفوق السحاب ارتفاعاً، في منظر طبيعي يأسر الألباب، يقول المزارع صادق أحمد مهدي، 43 عاماً، إنه توارث مهنة زراعة البن من أسرته التي برعت في هذا المجال منذ أكثر من مئتي عام.

وبينما يمسك بيده اليسرى منجله الزراعي، يشير صادق بيمناه إلى حقول البن، التي تتوزع متباعدة على الهضاب والمرتفعات المحيطة بمنطقته، ويؤكد "رغم دخول دول عالمية في زراعة وإنتاج البن بكميات كبيرة، فإن البن اليمني يظل هو الأفضل، وحسب معايير الجودة العالمية فإنه يتربع على تصنيف مقياس جودة القهوة".

 

محاسن الحرب!
وأضاف لـ"اندبندنت عربية"، "من العجيب، أن يكون للحرب حسنة تتمثل في دفعنا للعودة إلى القرية لزراعة البن والاعتناء به بعد أن تركنا هذه المهنة منذ عقود جراء هجرتنا الداخلية إلى مدينة صنعاء".

بعد أن حاز شهرة عالمية واسعة، أدرك اليمنيون القيمة الاقتصادية للقهوة، ولهذا فقد استشعروا خطر إمكانية نقل زراعتها إلى خارج اليمن، ما دفع السلطات اليمنية المتعاقبة خلال القرون السابقة، إلى إحكام السيطرة على زراعة محصولها، بفرض قوانين صارمة تمنع تهريب بذورها خارج البلاد، تصل عقوبتها إلى الإعدام.

وكما تقول بعض الأبحاث العلمية المنشورة في عدد من المواقع الإلكترونية، فإن اليمنيين ابتكروا خلال القرون الماضية، آليات دقيقة لإبطال صلاحية النواة للزراعة خارج اليمن لمنع زراعتها، إما بالغلي أو التقشير (فصل القشرة عن النواة)، ثم تحميص النواة، أي إحراقها وتحريكها على نار تتراوح درجتها ما بين 180 و240 درجة مئوية، ولمدة 20 دقيقة.

غير أن المزارع، صادق أكد أن آباءه توارثوا أنباء تتحدث عن تمكّن بعض الرحالة الأجانب الإيطاليين والأتراك من تهريب شتلات وبذور البن لبلدانهم وانتشار زراعتها عالمياً في ما بعد.

الحصاد والتحضير
بمجرد نضوج ثمار البُن واتخاذها اللون الأحمر أو الأصفر، يجرى قطف حبوب القهوة، وتجفيفها على أسطح المنازل.

وبعد تنقيته من الشوائب وفصل قشورها عن نواة القهوة، التي تستخدم في صناعة مشروب قهوة "القشر" التي يعشقها اليمنيون ويتناولونها صباحاً، يجرى تحميص حبوب البن في معامل محلية من خلال "مقالي" ضخمة بعد أن يجرى فرزها حسب الشكل والجودة، ومن ثم تذهب إلى التعبئة والبيع.

الحرب والأمطار
وتطرق صادق إلى تأثيرات الحرب في عملية إنتاج القهوة، وأكد "تسببها في خفض كمية الإنتاج، إضافة إلى انهيار الاقتصاد وإغلاق المنافذ التجارية وانعدام الوقود الخاص بتشغيل مضخات الري، بينما يعتمد بعض المناطق مثل المحويت والحيمة وريمة وغيرها، على الأمطار الموسمية التي يبرع المزارع اليمني في إنشاء سدود متسلسلة في سفوح وجوانب الجبال تمتد منها قنوات تصريف السيول التي تغذي بدورها أحواض شجرات البُن أطول فترة ممكنة".

القهوة بدلاً عن القات
صادق أكد أن كثيراً من أبناء منطقة حراز، باشروا خلال السنوات الماضية بإزالة نبتة القات من مزارعهم، وغرسوا بدلاً عنها شتلات البن.

وشبّه ذلك "بالعودة المفرحة لزراعة هذه الثمرة التي ارتبطت تاريخياً بهذه المنطقة ارتباطاً حميمياً منذ قرون".

وباعتبار تلك الخطوة مفاجئة لكثير من اليمنيين، أوضح أن الأهالي أزالوا نحو 2 مليون شجرة قات في المنطقة، وغرسوا بدلاً عنها القهوة والذرة، وهي الخطوة التي قُوبلت باستحسان وارتياح أبناء المنطقة والوطن عموماً.

البن في التراث اليمني
نظراً إلى مكانة القهوة تاريخياً في نفوس اليمنيين، ولما يمثله موسم حصاد بذورها في أجواء من البهجة والسرور وعبارات الاستبشار التي يتشاركها جميع أبناء القرية، رجالاً ونساءً، فقد احتفظ التراث الشعبي اليمني بكثير من الأعمال الغنائية والأشعار والمهاجل الشعبية المشهورة التي تغنّت بالبن وبموسم حصاده، والإشادة به رمزاً يمنياً، ومنتجاً قومياً رافداً للاقتصاد اليمني.

ولخص الشاعر اليمني، مطهر الإرياني، روح الحياة اليمنية باقترانها بالبن منذ زراعته وإلى جني ثماره في واحدة من أجمل الأشعار المغناة في اليمن التي لحنها علي بن علي الآنسي: "يا حارس البن بشرى موسم البن داني... ما للعصافير سكرى بين خضر الجنان... هل ذاقت الكاس الأول من رحيق المجاني واسترسلت تطرب الأكوان بأحلى الأغاني". إلى أن يقول: "بن اليمن يا درر... يا كنز فوق الشجر... من يزرعك ما افتقر... ولا ابتلى بالهوانِ".

وبنظرة يملؤها التفاؤل الشبيه بما يمنحه تأثير ارتشاف قهوة البُن اليمنية، يتأمل صادق وجمع من أسرته وأقربائه، حقول البن التي تمتد مزهوة، تحتضن الروابي البعيدة، حيث تتراقص أغصانها الهادئة، المثقلة بحبات القهوة الطرية الحمراء والصفراء، على أمل أن يعود هذا المنتج إلى مكانته كأجود نوع في العالم، بينما المشهد يوشي بانتظار الجانبين، موعد غرام الحصاد الباعث للنشوة والفرح والغناء!

  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً
كاريكاتير يجسد معاناة سكان تعز جراء الحصار
اتفاق استوكهولم
صلاة الحوثيين
الإغتيالات في عدن