في قلب القاهرة، وتحت ثريات فندق فخم تلمع كنجوم الليل في قاعة مغلقة، تجمّع المئات. بعضهم جاء من أحياء شعبية لا يعرف أصحابها إلا السفر في الميكروباص في شارع فيصل، أو من شارع زايد، وآخرون هبطوا من طائرات قادمة من عواصم بعيدة، وبعضها طائرات خاصة أو أو ركاب للدرجة الأولى، بعضهم جاء محملًا بالذكريات، وبعضهم محمّلًا بالرسائل. منهم انفصاليون يحنون لزمن الزعيم، وفيهم اصلاحيون يرون أن أولاده أخف الضرر، محبون و معارضون، ومعارضون سابقين، تأملت في الصور المتاحة كان ذلك عرسًا في شكله، لكنه بدا كمؤتمر مصغر في مضمونه وصوره البعض كاستفتاء، عرس يختلط فيه الضحك بالمراقبة، والمصافحة بالحسابات القديمة.
عرس أولاد صالح وأولاد أقاربهم بيت دويد،
غالبية الحضور كانوا من رجال الأعمال والطبقة المتوسطة من المغتربين، ومن سياسيين تم تهميشهم أو سياسيون فاشلون، من الحالمين بدور قادم في المشهد، ومن الذين شعروا بالخذلان من الطبقة السياسية الجديدة، بدءًا بالتي شكّلها عبدربه منصور هادي وانتهاءً بطبقة رشاد العليمي. بينهم من جاء مدفوعًا بالحنين، ومن جاء مدفوعًا بالغضب، ومن جاء فقط ليتباهى بصورة مع أحمد علي أو مدين أو طارق، تاركًا العرسان وأجواء الفرح، متفرغًا لالتقاط الصور ومشاركتها.
تابعت ما تم نشره حول العرس وهناك جانب آخر لا يمكن إغفاله: كثير من الحضور يحبون صالح وأبناءه بصدق، ربما لأنه مثّل في حياتهم رمزًا للهيبة أو لحياة أكثر استقرارًا، وربما لأنهم يرون في أبنائه امتدادًا لاسم صنع لهم ذكريات خاصة. لكن مثل كل اليمنيين الذين جربناهم في السياسة والاجتماع، فإن هذا الحب لا يأتي وحده. هو مزيج من العاطفة والمصلحة، من التقدير الحقيقي والرغبة في الاقتراب من مركز نفوذ محتمل. دوافعهم أحيانًا مقصودة، وأحيانًا تأتي بلا وعي، إذ تختلط رغبة الشخص في الوفاء للماضي برغبته في ضمان مكان لنفسه في أي مستقبل قد يتشكل.
وسط هذه الأجواء، هناك أيضًا من يسعى لإحداث شقاقات بين أولاد صالح وأبناء أخيه طارق، مدفوعًا بحسابات سياسية أو شخصية. أفهم دوافع المعارضين لهذه الأسرة، كما أفهم اشتياق البعض إليها، وأفهم كذلك كيف يريد بعض المؤتمريين معاقبة طارق بالالتفاف حول أحمد. لكن كل هذه التعقيدات تعكس شيئًا أعمق: استهتارًا بما يجري في بلد مدمر، ومحاولات لاستغلال أسرة تضم الطامحين والزاهدين على حد سواء، وكلٌّ منهم يواجه إرثًا ثقيلًا بقدر ما هو مغرٍ.
وأنا أكتب هذه السطور، أفعل ذلك من موقع شخص لم يكن يومًا من أنصار صالح، رغم أن والدي كان يحبه. نحن جيلان مختلفان في الوعي والرؤية. والدي كان يرى أن عهد صالح، بكل ما فيه، كان أكثر أمنًا وسلمًا من الذي سبقه، وأن المقارنة يجب أن تكون بينه وبين زمن الحروب والانقلابات التي عرفتها اليمن قبل وصوله للحكم. أما أنا فقد نشأت في زمن آخر، زمن ظهر فيه للعالم مهاتير محمد الذي جاء إلى الحكم بعد صالح، وقاد ماليزيا – الخارجة للتو من حرب أهلية وكان أغلب شعبها يعمل بالحطب والصيد – إلى دولة تقارن نفسها اليوم بأمريكا وبريطانيا وهولندا. نحن لا نريد أن نقارن أنفسنا بالصومال في زمن الحرب الأهلية، بل بماليزيا وفيتنام اليوم، دول نهضت من تحت الركام وصارت نموذجًا.
ولهذا، حين أنظر اليوم إلى أبناء صالح، وخاصة أحمد، يأتيني القلق قبل التعاطف. كنت سعيدًا برؤيتهم آمنين ومحاطين بالاحترام، بل انني كتبت متعاطفا مع طارق صالح حين اضطر للانسحاب إلى شبوة، وطالبت حكومة هادي و احزاب المشترك ان تمد يدها لطارق فهو كالفارق وقتها، طلبت ان تمد يدها له قبل ان تمسك يده أنظمة أو مصالح دولية أخرى تتقاطع مصالحها مع مصالح اليمن، ووقتها هاجمني زميل بأنني عفاشي، اليوم بقدر ارتياحي لرؤية اولاد صالح الذين يعبرون عن جيلنا وان كانوا من طبقة مختلفة، لكنني في الوقت نفسه أشعر بالخوف عليهم… ومنهم. فالتاريخ القريب يقول إن الحب الشعبي قد يتحول إلى عبء سياسي، وإن الإرث يمكن أن يصبح قيدًا على صاحبه قبل أن يكون رأسمالًا له.
والدهم رحمة الله عليه رغم انه بالغ في تقدير ذكاءه بالرقص مع الثعابين وتسبب لنفسه وللبلد بكارثة، كان ذكيًا في حمايتهم من التشويه، أبعدهم عن الأضواء، وحال بينهم وبين شبكات الأمن التي تحيط بالشخصيات العامة أحيانًا لتخلق لهم صورة مشوهة أو تتركهم فريسة للشائعات. كانت استراتيجيته أشبه بما تفعله الأندية الكبرى حين تحيط لاعبًا صاعدًا بمدير أعمال وحراس يبعدونه عن الصحافة الصفراء ويحفظون صورته نقية. ميزة كهذه لم تتوفر لأبناء الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر، الذين طالتهم حملات تشويه من كل اتجاه، حتى صار كثيرون يحكمون عليهم من صورتهم التي نشرها عنهم رجالات الأمن في المجالس اليمنية لا من واقعهم، رغم أن من يعرفهم عن قرب سيجدهم أقرب في مزاجهم وطباعهم إلى أبناء صالح.
العرس الذي بدا وكأنه مناسبة عائلية كان في الحقيقة مرآة لعبء ثقيل ينتظر أبناء صالح. إرث لا يُختزل في اسم أو صورة أو ذكرى، بل شبكة واسعة من الحزبيين والمقربين، ممن يظنون أن قربهم من صالح أو ولاءهم له في الماضي يمنحهم اليوم حقًا شخصيًا على أولاده وعلى الدولة التي لم يعد أولاد صالح فيها بشكل كبير ماعدا طارق وعمار، ويطمعهم في المناصب والنفوذ، وكأنها ديون واجبة السداد.
خطورة هذا الإرث أن كثيرًا من هؤلاء، وإن كانوا أوفياء لصالح، فإن ولاءهم – أو ولاء آبائهم – لم يكن بلا مقابل. بعضهم جاء اليوم كبديل عن والده أو شقيقه الذي كان مقربًا من صالح، ويعتبرون أن هذا الولاء يمنحهم حقًا مستمرًا في النفوذ. وحين يجد أحد الأبناء نفسه في موقع السلطة، خصوصًا الرئاسة، سيكون مضطرًا للتعامل مع هذه الشبكة على الطريقة القديمة: توزيع المناصب وفق الولاءات، ومراعاة التوازنات القبلية، وإرضاء كل طرف بقدر ما يستطيع. لكن هذه الوصفة، التي ربما كانت صالحة قبل عقدين، باتت اليوم طريقًا مضمونًا للفشل.
المزاج الشعبي تغيّر، والمجتمع لم يعد يرى الدولة كصفقة بين شيوخ ونافذين، بل كمؤسسة يُحاسَب من يقودها. في زمن شبكات التواصل، من وقف معك بالأمس قد يهاجمك علنًا غدًا، ومن غنّى لك اليوم قد يبتزك في الغد نفسه. الناس تنتظر قادة من كل المجتمع، يحررون البلد من الحوثي، ويبعدون شبح التقسيم، ويقطعون حبال الارتهان للأجنبي.
أعتقد أن أحمد علي عبدالله صالح يعرف هذه الحقيقة جيدًا. نشأته الطويلة في دبي منحته منظورًا مختلفًا: الفرق بين دولة حديثة ومجتمع تحكمه القبيلة، بين مؤسسات تعمل بالقوانين وشبكات تتحرك بالولاءات. وربما لهذا السبب ظل بعيدًا عن المشهد رغم إغراءات السلطة وضغوط أنصاره وداعميه. ربما فهم أن العودة إلى الحكم بشروط الماضي ليست عودة، بل انتحار سياسي بطيء.
لقد حاول والده، في سنواته الأخيرة، أن يمنع انهيار اليمن، لكن بطريقته الخاصة التي لم ينتبه انها فقط لتثبيت حكمه، فقد كانت ثقافته السياسية الموروثة، وتعقيدات الوضع الاجتماعي، والتحالفات التي بُنيت على موازين القوة التقليدية، كلها كانت أثقل من أي محاولة للتغيير. انتهى الأمر بانهيار البلد فوق رأسه ورأس الشعب معًا.
وليس ببعيد عنا ما جرى في مصر. أولاد حسني مبارك كانوا محبوبين في أوساط واسعة، وحظوا قبل شهور بالاحتفاء ذاته الذي يحظى به أبناء صالح اليوم، لكن الزمن تغيّر، وقوانين السياسة لم تعد تترك للأسماء الكبيرة حصانة دائمة.
اليوم، على أي وريث سياسي لصالح أن يقرر بوعي: هل يريد إعادة تشغيل آلة الماضي، أم يختار مسارًا جديدًا، يتعامل مع الناس كمواطنين لا كتابعين، ومع الدولة كمؤسسة لا كغنيمة؟ هل يقرب الموالين وان كان غالبيتهم من المتسلقين؟ أم يستفيد من تجارب الزمن؟هذه ليست مجرد نصيحة عابرة، بل اختبار تاريخي. لأن الإجابة لن تحدد مصيرهم وحدهم، بل مصير بلد بأكمله، وسمعة اسم، ما زال يتردد بين قاعات الأفراح وذكريات السياسة.