الغداء الأول… على مائدة الرئيس رشاد العليمي
الساعة 11:45 م

 

عند الثامنة صباحاً، وصلتني رسالة مقتضبة من مكتب الرئيس رشاد العليمي: “موعدك مع الرئيس عند الثانية ظهراً”.

رسالة قصيرة، لكن وقعها كبير. في بلدٍ أنهكته الحروب، يصبح انتظام المواعيد ودقتها مؤشراً على معنى الدولة. لطالما شكا اليمنيون من قيادة كسولة ولا تعمل بإنتظام، أو تعمل ولا يلمس الناس أثرها.

في اللقاءات الأولى تزدحم الأفكار والاسئلة القادمة من الناس خاصة من شاب مثلي لا علاقة له بالسلطة ولا بالمسؤولين. سبق أن التقيت بشكل عابر مسؤولين يمنيين بارزين؛ نائب الرئيس علي محسن الأحمر، رئيس الوزراء أحمد عوض بن مبارك، وغيرهما. لكن اللقاء هذه المرة مختلف: هو لقاء مع الرجل الأول، مع رأس الدولة، مع من يجلس على مقعد مثقل بالانقسامات والتاريخ والأحلام الكبيرة لشعب كبير .

استقليت سيارة أجرة إلى حي السفارات في الرياض. كانت الحرارة تتجاوز الأربعين، لكن ما أثقلني لم يكن القيظ، بل الأسئلة. كيف يفكر الرجل الذي يقود اليمن عند أخطر مفترق؟ أي لغة يستخدمها مع خصومه وحلفائه؟ وكيف يدير مجلس قيادة يتوزع اعضاؤه بين عواصم متباعدة، يختزن داخله تشكيلات مسلحة وأجندات متضاربة؟

قاعة الانتظار

عند البوابة كان المراسم في استقبالي. قادوني إلى صالة استقبال واسعة: عسكريون سابقون بملامح أنهكتها التجارب، ودبلوماسي بريطاني تبادلنا الحديث عن اليمنيين في أوروبا، خاصة بروكسل. بعد دقائق انضم إلينا الدكتور صالح المقالح، مدير مكتب الرئيس، يتحدث بلغة إنجليزية متينة، سأل الدبلوماسي البريطاني عن القناة التي تصل فرنسا بإنجلترا. بدا المشهد أقرب إلى فصل افتتاحي في مسرحية، تتقاطع فيها السياسة مع الثقافة.

دخل الجنرالان محمود الصبيحي وفيصل رجب. الأخير بدا صامتاً لكن وجهه تكلم بما فيه الكفاية؛ سنوات الأسر لدى الحوثيين تركت على ملامحه تعباً وشيباً لا يخفيان.اما الصبيحي المقرب من الرئيس العليمي فلا يزال بكامل هندامه مثل محارب قديم .

ساعة اللقاء

تأخر الموعد ساعة ونصف. ثم جاءني سكرتير الرئيس، صحافي مخضرم عُرف عبر وكالة فرانس برس. دخلت صالة الاستقبال. نهض العليمي، صافحني وقال بابتسامة نصف مازحة:
«تبدو صغير السن».

كانت جملة عابرة، لكنها أشبه بمفتاح للحديث. بدأ يسألني عن دراستي الأكاديمية، عن الإعلام، عن الجبهات التي غطيتها حينما كنت في اليمن وكانت المعركة الوطنية في ذروتها. كان يصغي كما يصغي أستاذ جامعي إلى أطروحة، وأحياناً كما يصغي مثقف يبحث عن الخيوط الخفية التي تمنح الرواية صدقيتها وكمالها .

أخبرته أنني عدت من اليمن قبل أسابيع، وأنني منشغل بإنجاز أطروحة الدكتوراه عن أثر استقرار اليمن على أمن البحر الأحمر، وانعكاساته على أوروبا التي تمر عبره أكثر من 40 في المئة من تجارتها. 

وجوه اليمن

تحدثنا عن قريتي “الأفيوش”. عرف تضاريسها كما يعرف تضاريس الذاكرة اليمنية. ذكّرته بمواقفه المبكرة ضد الخطر الحوثي، حين دعم الصحافة الأهلية التي قاومت بالفكر قبل السلاح. أجاب:

«حتى التصاريح الرسمية التي ساعدت في منحها لبعض الصحف أثارت غضب السلطة آنذاك. لكنني كنت مقتنعاً بضرورة كسر دائرة الكهنوت في بدايته».

قال إنه اتخذ موقفاً مبكراً تجاه السياسات التي بدأت تمهّد الطريق لإعادة إنتاج الحوثيين.

الأسئلة الراهنة

عن “الإعاشه”، قال إنه بصدد تشكيل لجنة لمراجعة الملف، وإن ما يُثار حوله كثير من المبالغات.

في السلك الدبلوماسي، أخبرني أنه وجّه بفتح باب التنافس لأكثر من خمسين موقعاً في الخارجية. قال بلهجة حازمه:

«لا نريد أن تبقى الخارجية رهينة المحسوبية. نحن بحاجة إلى وجوه تعكس صورة اليمن بالكفاءة لا بالانتماء».

سألته إن كان سيُعلَن عن باب المنافسه . قال: «نعم». قلت له: خطوة مهمة، بديل عن التعيينات العائلية. ابتسم ولم يعلّق.

عن الإصلاحات الاقتصادية، أضاف أنه يدعم رئيس الوزراء بكل ما قوه.

في السياسة الخارجية، ذكرت له شهادة دبلوماسي يمني في بروكسل: «رافقت رؤساء سابقين، لكن لم أرَ أحداً يطرح القضية اليمنية بعمق مثل العليمي». اكتفى بابتسامة صامتة، ثم قال عن الإعلام:
«المعركة الوطنية تحتاج إلى عين ترى الإيجابيات. السلبية وحدها تقتل الأمل لدى الناس».

على الطاولة

مع اقتراب الخامسة مساءً، أصر الرئيس أن أتناول الغداء معه وفريقه: مدير مكتب الرئاسة، مدير مكتب القائد الأعلى، مدير المراسم، مدير الحراسة. جلس على رأس المائدة يتنقل بين أسئلة عن شخصيات يمنية، وبين حديث عن الأدب والتاريخ. رجل يقود دولة في الحرب، لكنه لا يتخلى عن ملامح الأستاذ الباحث.

قبل أن نغادر، قال بلهجة هادئة لكنها مثقلة بالمسؤولية:
«مهمتي لا تكتمل إلا بمساعدة القوى السياسية والمجتمعية. التركة مثقلة".

قلت له : امنية اليمنيين ان تتوحد كل السلطات تحت سلطة الرئاسة، ومنها السلطة العسكرية. قال هيكل عن “جوهر الدولة” في لحظات الانقسام: أن الجيش بلا سلطة واحدة يتحول إلى شظايا، وأن السياسة بلا مركز تتحول إلى فوضى.

العليمي وتشرشل

غادرت مكتبه، وفي ذهني صورة تشرشل: الرجل الذي واجه عتمة لندن تحت القصف. يشبهه العليمي في إدراكه أن المعركة ليست عسكرية فقط، بل هي معركة وعي وإرادة. 

قال تشرشل: «أعطني الإعلام بلا قيود أعطك شعباً واعياً». والعليمي، بلهجة يمنية، قال الشيء نفسه: الإعلام الوطني يجب أن يركّز على الأمل لا على التفاصيل السلبية.

لكن الفارق أن تشرشل كان يقود دولة موحدة وصلبة، أما العليمي فيحمل على كتفيه دولة مجزأة، مثقلة بالتحالفات والتصدعات. 

تشابهه يكمن في عناده أمام الخطر وصلابته في مواجهة التحديات التي تواجه البلد، وفي يقينه أن بناء مؤسسات الدولة هو خط الدفاع الأول. 

أما اختلافهما فهو زمن وتاريخ: تشرشل انتصر ثم غادر المسرح، أما العليمي فما زال في منتصف الطريق، بين حرب مفتوحة ووضع اقتصادي صعب لدولة بموارد ضيئلة وشعب متعب يبحث عن نافذة ضوء.

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
كاريكاتير يجسد معاناة سكان تعز جراء الحصار
اتفاق استوكهولم
صلاة الحوثيين
الإغتيالات في عدن