ظلت تعز عبر تاريخها منارةً للفكر والسياسة والثقافة، وفضاءً مفتوحًا للنقاش والتنوع والاختلاف، وقلعةً حصينة في وجه تغوّل سلطة الفرد والميليشيا على روح الدولة والمدنية. وكرّرت المدينة مرارًا صياغة المشروع الوطني التحرري شمالًا وجنوبًا.
حتى في ذروة الحرب ضد جماعة الحوثي قبل عقد من الزمن، واجهت المدينة المحاصرة معركتها برؤية سياسية موحدة جمعت مختلف الأطياف، في مشهد نادر في بلد اعتاد الإنقسام أكثر من التوافق. خاضت تعز معركتها بوطنية خالصة لاستعادة اليمن الكبير.
لكن اليوم، تواجه المدينة دوامة من التهديدات الأمنية والسياسية، يحاول بعض شركاء السلطة توظيفها لخدمة حساباتهم الحزبية الضيقة. وكأن المدينة التي كانت منبرًا للحرية والوعي والشراكة أصبحت ساحة تُدار بالبيانات والمناكفات لا بالمواقف والمبادئ المشتركة.
تتفرّد تعز بكونها مدينة لا يهيمن فيها لون سياسي واحد، إذ تضم فروعًا لكل القوى الوطنية تقريبًا — من المؤتمر الشعبي العام والاشتراكي والناصري إلى الإصلاح والسلفيين والمكتب السياسي للمقاومة.
هذا التنوع ظل دائمًا علامة قوة، لأنه أبقى السياسة حيّة حين خيّم الصمت الحزبي على مدن أخرى، وأبقى علم اليمن موحّدًا حين تفرقت الرايات، وبقي المشروع الوطني فيها بحجم جبل صبر حين تشظت المشاريع وتناسلت الهويات.
غير أن بعض القوى التي شاركت في صياغة المشروع التنويري لتعز والتي تتشارك السلطة بدأت تنزلق إلى منطق المكايدات، فصار الخلاف السياسي يُفسَّر كعداء، والأحداث الأمنية تُستغل لمواجهة الخصوم. وهنا يكمن الخطر الحقيقي.
الجرائم الأخيرة، وعلى رأسها اغتيال افتهان المشهري، لم تكشف فقط عن ضعف أمني، بل عن هشاشة الوعي بالشراكة والمسؤولية. وبدل أن تكون هذه الأحداث دافعًا لإصلاح الأجهزة الأمنية وتوحيد الصف، تحولت إلى مادة للمزايدات الحزبية.
في تعز، تتقاسم الأحزاب سلطةً كان يُفترض أن تكون تكاملية، لكنها تحولت إلى محاصصة تُضعف مؤسسات الدولة وتفتح الباب للفوضى. فالأمن لا يُبنى بالشعارات، بل بإرادة موحدة تتجاوز الحسابات الصغيرة.
ما يحدث في تعز هو انعكاس لأزمة الدولة اليمنية ذاتها، دولة لم تنجح بعد في ترسيخ شراكة سياسية حقيقية بين مكوناتها، وظلت أسيرة عقلية قديمة تقوم على الإقصاء لا المشاركة وعلى التربص لا التكامل.
على الحكومة المركزية ومختلف القوى السياسية أن تتعامل مع تعز باعتبارها نقطة التقاء وطنية، لا مجرد هامش جغرافي. فتعزيز الأمن، وتأهيل الشرطة، ودعم القضاء، ومساواة رواتب قوات الجيش مع بقية المحافظات، وتحسين الخدمات ليس ترفًا، بل ضرورة لبقاء الدولة نفسها. كل تأخير في دعم المدينة يعني تمدد الفوضى، وتحول التنوع السياسي من طاقة بناء إلى وقود صراع.
تعز هي ذاكرة اليمن الحية، المدينة التي كُتب فيها الوعي الوطني بأقلام المثقفين وأصوات المناضلين. احتضنت كل من فرّ من بطش الميليشيات، مؤمنة بأنها لليمن واليمن كلّه لا مدينة فحسب وهذا قدر المدن العظيمة دائماً.
اليوم، تقع على عاتق نخبتها السياسية والثقافية مسؤولية إعادة الاعتبار لتعز — مدينةً للسياسة والتنوير والشراكة الوطنية، ومركزًا لإحياء روح الدولة والمواطنة.
تعز بحاجة إلى إعادة تعريف الشراكة، لا إعادة إنتاج الخلاف، وإلى خطاب إعلامي تصالحي يخدم الناس الذين عانوا كثيرًا. ومن واجب القادة والأحزاب خدمة الشعب وبدون الاهتمام المستمر بمصالح الشعب، يصبح عملهم عديم الفائدة ويفقد الناس أملهم بتلك الأحزاب وسياساتها.
* (المصدر أونلاين)